فصل: سورة الطور

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


سورة الطور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 20‏]‏

‏{‏وَالطُّورِ ‏(‏1‏)‏ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ‏(‏2‏)‏ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ‏(‏3‏)‏ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ‏(‏4‏)‏ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ‏(‏5‏)‏ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ‏(‏9‏)‏ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ‏(‏13‏)‏ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏14‏)‏ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏15‏)‏ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‏(‏17‏)‏ فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏18‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏والطور‏}‏ قال الجوهري‏:‏ هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى‏.‏ قال مجاهد، والسديّ‏:‏ الطور بالسريانية الجبل، والمراد به طور سيناء‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ هما طوران، يقال لأحدهما‏:‏ طور سيناء، وللآخر‏:‏ طور زيتا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون‏.‏ وقيل‏:‏ هو جبل مدين، وقيل‏:‏ إن الطور كل جبل ينبت، وما لا ينبت فليس بطور، أقسم الله سبحانه بهذا الجبل تشريفاً له وتكريماً‏.‏ ‏{‏وكتاب مُّسْطُورٍ‏}‏ المسطور‏:‏ المكتوب، والمراد بالكتاب‏:‏ القرآن، وقيل‏:‏ هو اللوح المحفوظ، وقيل‏:‏ جميع الكتب المنزلة، وقيل‏:‏ ألواح موسى، وقيل‏:‏ ما تكتبه الحفظة، قاله الفراء، وغيره، ومثله‏:‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏فِى رَقّ مَّنْشُورٍ‏}‏ متعلق بمسطور، أي‏:‏ مكتوب في رقّ‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏في رق‏}‏ بفتح الراء، وقرأ أبو السماك بكسرها‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الرقّ بالفتح ما يكتب فيه، وهو جلد رقيق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى رَقّ مَّنْشُورٍ‏}‏ قال المبرد‏:‏ الرقّ ما رقّ من الجلد ليكتب فيه، والمنشور‏:‏ المبسوط‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وجمعه رقوق، ومن هذا قول المتلمس‏:‏

فكأنما هي من تقادم عهدها *** رقّ أتيح كتابها مسطور

وأما الرقّ بالكسر، فهو المملوك، يقال‏:‏ عبد رقّ، وعبد مرقوق‏.‏ ‏{‏والبيت المعمور‏}‏ في السماء السابعة‏.‏ وقيل‏:‏ في سماء الدنيا، وقيل‏:‏ هو الكعبة، فعلى القولين الأوّلين يكون وصفه بالعمارة باعتبار من يدخل إليه من الملائكة، ويعبد الله فيه‏.‏ وعلى القول الثالث، يكون وصفه بالعمارة حقيقة أو مجازاً باعتبار كثرة من يتعبد فيه من بني آدم ‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ يعني‏:‏ السماء، سماها سقفاً لكونها كالسقف للأرض، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 32‏]‏ وقيل‏:‏ هو العرش ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ أي‏:‏ الموقد، من السجر‏:‏ وهو إيقاد النار في التنور، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 6‏]‏ وقد روي أن البحار تسجر يوم القيامة فتكون ناراً، وقيل‏:‏ المسجور‏:‏ المملوء، قيل‏:‏ إنه من أسماء الأضداد، يقال‏:‏ بحر مسجور أي‏:‏ مملوء، وبحر مسجور، أي‏:‏ فارغ، وقيل‏:‏ المسجور‏:‏ الممسوك، ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ المسجور‏:‏ الذي ذهب ماؤه، وقيل‏:‏ المسجور‏:‏ المفجور، ومنه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار فُجّرَتْ‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 3‏]‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ هو الذي يختلط فيه العذب بالمالح‏.‏ والأوّل أولى، وبه قال مجاهد، والضحاك، ومحمد بن كعب، والأخفش، وغيرهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ‏}‏ هذا جواب القسم، أي‏:‏ كائن لا محالة لمن يستحقه ‏{‏مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ‏}‏ يدفعه ويرده عن أهل النار، وهذه الجملة خبر ثان لإن، أو صفة لواقع، و«من» مزيدة للتأكيد‏.‏ ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها أنها عظيمة دالة على كمال القدرة الربانية‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً‏}‏ العامل في الظرف ‏{‏لواقع‏}‏، أي‏:‏ إنه لواقع في هذا اليوم، ويجوز أن يكون العامل فيه ‏{‏دافع‏}‏‏.‏ والمور‏:‏ الاضطراب والحركة‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ مار الشيء يمور موراً‏:‏ إذا تحرك وجاء وذهب، قاله الأخفش، وأبو عبيدة‏:‏ وأنشدا بيت الأعشى‏:‏

كأن مشيها من بيت جارتها *** مشي السحابة لا ريث ولا عجل

وليس في البيت ما يدلّ على ما قالاه إلاّ إذا كانت هذه المشية المذكورة في البيت يطلق المور عليها لغة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يموج بعضها في بعض، وقال مجاهد‏:‏ تدور دوراً، وقيل‏:‏ تجرى جرياً، ومنه قول الشاعر‏:‏

وما زالت القتلى تمور دماؤها *** بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

ويطلق المور على الموج، ومنه‏:‏ ناقة موارة اليد، أي‏:‏ سريعة تموج في مشيها موجاً، ومعنى الآية‏:‏ أن العذاب يقع بالعصاة، ولا يدفعه عنهم دافع في هذا اليوم الذي تكون فيه السماء هكذا، وهو يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ إن السماء ها هنا الفلك، وموره‏:‏ اضطراب نظمه واختلاف سيره‏.‏ ‏{‏وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً‏}‏ أي‏:‏ تزول عن أماكنها، وتسير عن مواضعها كسير السحاب، وتكون هباءً منبثاً، قيل‏:‏ ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدالة على غرابتها، وخروجهما عن المعهود، وقد تقدّم تفسير مثل هذا في سورة الكهف‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ ويل‏:‏ كلمة تقال للهالك، واسم واد في جهنم، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة، أي‏:‏ إذا وقع ما ذكر من مور السماء، وسير الجبال فويل لهم‏.‏ ثم وصف المكذبين بقوله‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ في تردّد في الباطل، واندفاع فيه يلهون لا يذكرون حساباً، ولا يخافون عقاباً‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يخوضون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء، وقيل‏:‏ يخوضون في أسباب الدنيا، ويعرضون عن الآخرة‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ الدعّ‏:‏ الدفع بعنف وجفوة، يقال‏:‏ دععته أدعه دعًّا، أي‏:‏ دفعته، والمعنى‏:‏ أنهم يدفعون إلى النار دفعاً عنيفاً شديداً‏.‏ قال مقاتل‏:‏ تغلّ أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى جهنم دفعاً على وجوههم‏.‏ قرأ الجمهور بفتح الدال وتشديد العين‏.‏ وقرأ عليّ والسلمي، وأبو رجاء، وزيد بن عليّ، وابن السميفع بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة أي‏:‏ يدعون إلى النار من الدعاء‏.‏ ويوم إما بدل من ‏{‏يوم تمور‏}‏، أو متعلق بالقول المقدر في الجملة التي بعد هذه، وهي ‏{‏هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم ذلك يوم يدعون إلى نار جهنم دعًّا، أي‏:‏ هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، والقائل لهم بهذه المقالة هم خزنة النار، ثم وبخهم سبحانه، أو أمر ملائكته بتوبيخهم، فقال‏:‏ ‏{‏أَفَسِحْرٌ هذا‏}‏ الذي ترون وتشاهدون، كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة، ولكتبه المنزلة، وقدّم الخبر هنا على المبتدأ لأنه الذي وقع الاستفهام عنه، وتوجه التوبيخ إليه ‏{‏أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ أم أنتم عمي عن هذا، كما كنتم عمياً عن الحقّ في الدنيا ‏{‏اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ‏}‏ أي‏:‏ إذا لم يمكنكم إنكارها، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر، ولم يكن في أبصاركم خلل، فالآن ادخلوها وقاسوا شدّتها، فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وافعلوا ما شئتم، فالأمران ‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ‏}‏ في عدم النفع، وقيل‏:‏ أيضاً تقول لهم الملائكة هذا القول، ‏{‏وَسَوَآء‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ الأمران سواء، ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، أي‏:‏ سواء عليكم الصبر وعدمه، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ تعليل للاستواء، فإن الجزاء بالعمل إذا كان واقعاً حتماً كان الصبر، وعدمه سواء‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَعِيمٍ‏}‏ لما فرغ سبحانه من ذكر حال المجرمين ذكر حال المتقين، وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة، ويجوز أن تكون من جملة ما يقال للكفار زيادة في غمهم وحسرتهم، والتنوين في ‏{‏جنات وَنَعِيمٍ‏}‏ للتفخيم ‏{‏فاكهين بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ‏}‏ يقال‏:‏ رجل فاكه، أي‏:‏ ذو فاكهة، كما قيل‏:‏ لابن وتامر‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم ذوو فاكهة من فواكه الجنة، وقيل‏:‏ ذوو نعمة وتلذّذ بما صاروا فيه مما أعطاهم الله عزّ وجلّ مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقد تقدّم بيان معنى هذا‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فاكهين‏}‏ بالألف والنصب على الحال‏.‏ وقرأ خالد‏:‏ ‏(‏فاكهون‏)‏ بالرفع على أنه خبر بعد خبر‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏(‏فكهين‏)‏ بغير ألف، والفكه‏:‏ طيب النفس، كما تقدم في الدخان، ويقال‏:‏ للأشر والبطر، ولا يناسب التفسير به هنا ‏{‏ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم‏}‏ معطوف على آتاهم، أو على خبر إنّ، أو الجملة في محل نصب على الحال بإضمار قد‏.‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم ذلك، والهنيء‏:‏ ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ ليهنئكم ما صرتم إليه هناء، والمعنى‏:‏ كلوا طعاماً هنيئًا، واشربوا شراباً هنيئًا، وقد تقدم تفسير هنيئًا في سورة النساء، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏هنيئاً‏}‏‏:‏ أنكم لا تموتون‏.‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ‏}‏ انتصابه على الحال من فاعل كلوا، أو من مفعول آتاهم، أو من مفعول وقاهم، أو من الضمير المستكنّ في الظرف، أو من الضمير في ‏{‏فاكهين‏}‏‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏على سرر‏}‏ بضم الراء الأولى‏.‏ وقرأ أبو السماك بفتحها، والسرر‏:‏ جمع سرير‏.‏ والمصفوفة المتصل بعضها ببعض حتى تصير صفاً ‏{‏وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ أي‏:‏ قرناهم بها‏.‏ قال يونس بن حبيب‏:‏ تقول العرب‏:‏ زوّجته امرأة، وتزوّجت بامرأة، وليس من كلام العرب زوّجته بامرأة‏.‏ قال‏:‏ وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ أي‏:‏ قرناهم بهنّ‏.‏

وقال الفرّاء‏:‏ زوّجته بامرأة، لغة أزدشنوءة، وقد تقدم تفسير الحور العين في سورة الدخان‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بحور عين‏}‏ من غير إضافة‏.‏ وقرأ عكرمة بإضافة الحور إلى العين‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏والطور‏}‏ قال‏:‏ جبل‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جدّه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الطور جبل من جبال الجنة» وكثير ضعيف جدًّا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏فِى رَقّ مَّنْشُورٍ‏}‏ قال‏:‏ في الكتاب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيت المعمور في السماء السابعة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة»، وفي الصحيحين وغيرهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة‏:‏ «ثم رفع إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه» وأخرج عبد الّرزّاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل أن ابن الكوّاء سأل علياً عن البيت المعمور فقال‏:‏ ذلك الضراح، بيت فوق سبع سموات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه أبداً إلى يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن جرير نحوه عن ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر ورفعه، قال‏:‏ إن البيت المعمور، لجيال الكعبة لو سقط منه شيء لسقط عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً، ثم لا يعودون إليه‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه، وضعف إسناده السيوطي‏.‏ وأخرج ابن راهويه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ قال‏:‏ السماء‏.‏ وأخرج عبد الرّزّاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ قال‏:‏ بحر في السماء تحت العرش‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عمر مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ المسجور‏:‏ المحبوس‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه قال‏:‏ المسجور‏:‏ المرسل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً‏}‏ قال‏:‏ تحرك، وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ‏}‏ قال‏:‏ يدفعون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ‏{‏يوم يدعون إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ قال‏:‏ يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً‏}‏ أي‏:‏ لا تموتون فيها، فعندها قالوا‏:‏ ‏{‏أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 58، 59‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 34‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ‏(‏21‏)‏ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏22‏)‏ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ‏(‏24‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ‏(‏26‏)‏ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ‏(‏28‏)‏ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ‏(‏29‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ‏(‏31‏)‏ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏32‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم ذكر حال طائفة منهم على الخصوص، فقال‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ والموصول مبتدأ، وخبره ‏{‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ‏}‏ ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدّر، أي‏:‏ وأكرمنا الذين آمنوا، ويكون ألحقنا مفسراً لهذا الفعل المقدّر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏واتبعتهم‏}‏ بإسناد الفعل إلى الذرّية‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏(‏أتبعناهم‏)‏ بإسناد الفعل إلى المتكلم، كقوله‏:‏ ‏{‏ألحقنا‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏(‏ذرّيتهم‏)‏ بالإفراد‏.‏ وقرأ ابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب بالجمع، إلاّ أن أبا عمرو قرأ بالنصب على المفعولية لكونه قرأ ‏(‏وأتبعناهم‏)‏، ورويت قراءة الجمع هذه عن نافع، والمشهور عنه كقراءة الجمهور‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ألحقنا بهم ذرّيتهم‏}‏ بالإفراد‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب على الجمع، وجملة‏:‏ ‏{‏واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم‏}‏ معطوف على ‏{‏آمنوا‏}‏ أو معترضة، و‏{‏بإيمان‏}‏ متعلق بالاتباع، ومعنى هذه الآية‏:‏ أن الله سبحانه يرفع ذرّية المؤمن إليه، وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقر عينه، وتطيب نفسه بشرط أن يكونوا مؤمنين، فيختصّ ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرّية وهم البالغون دون الصغار، فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم، فبدليل آخر غير هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذرّية تطلق على الكبار والصغار، كما هو المعنى اللغوي، فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذرّيتهم وكبارهم، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏بإيمان‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ بإيمان من الآباء‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏بِهِمُ‏}‏ راجع إلى الذرّية المذكورة أوّلاً، أي‏:‏ ألحقنا بالذرّية المتبعة لآبائهم بإيمان ذرّيتهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالذين آمنوا‏:‏ المهاجرون والأنصار فقط، وظاهر الآية العموم، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صحّ ذلك، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ‏{‏وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَئ‏}‏ قرأ الجمهور بفتح اللام من‏:‏ «ألتنا» وقرأ ابن كثير بكسرها، أي‏:‏ وما نقصنا الآباء بإلحاق ذرّيتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئًا، فضمير المفعول عائد إلى الذين آمنوا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئًا لقصر أعمارهم، والأول أولى، وقد قدمنا تحقيق معنى لاته، وألاته في سورة الحجرات‏.‏ وقرأ ابن هرمز ‏(‏آلتناهم‏)‏ بالمدّ، وهو لغة‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ يقال‏:‏ ما آلته من عمله شيئًا، أي‏:‏ ما نقصه ‏{‏كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ‏}‏ رهين بمعنى مرهون، والظاهر أنه عامّ، وأن كل إنسان مرتهن بعمله، فإن قام به على الوجه الذي أمره الله به فكه، وإلاّ أهلكه‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى راهن، والمعنى‏:‏ كلّ امرئ بما كسب دائم ثابت‏.‏ وقيل‏:‏ هذا خاصّ بالكفار لقوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏ ثم ذكر سبحانه ما أمدّهم به من الخير، فقال‏:‏ ‏{‏وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ زدناهم على ما كان لهم من النعيم بفاكهة متنوّعة، ولحم من أنواع اللحمان مما تشتهيه أنفسهم، ويستطيبونه ‏{‏يتنازعون فِيهَا كَأْساً‏}‏ أي‏:‏ يتعاطون ويتناولون كأساً، والكأس‏:‏ إناء الخمر، ويطلق على كل إناء مملوء من خمر، أو غيره، فإذا فرغ لم يسم كأساً ‏{‏لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لا يجري بينهم ما يلغي، ولا ما فيه إثم، كما يجري بين من يشرب الخمر في الدنيا، والتأثيم تفعيل من الإثم، والضمير في‏:‏ ‏{‏فِيهَا‏}‏ راجع إلى الكأس، وقيل‏:‏ لا لغو فيها، أي‏:‏ في الجنة، ولا يجري فيها ما فيه إثم، والأوّل أولى‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ لا تذهب بعقولهم فيلغوا، كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ لا تأثيم أي‏:‏ لا كذب‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏ بالرفع، والتنوين فيهما‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن محيصن بفتحهما من غير تنوين‏.‏ قال قتادة‏:‏ اللغو‏:‏ الباطل‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ لا فضول فيها‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا رفث فيها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لا سباب ولا تخاصم فيها‏.‏ والجملة في محل نصب على الحال صفة ل ‏{‏كأساً‏}‏ ‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يطوف عليهم بالكأس، والفواكه، والطعام، وغير ذلك مماليك لهم، وقيل‏:‏ أولادهم ‏{‏كَأَنَّهُمْ‏}‏ في الحسن والبهاء ‏{‏لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ أي‏:‏ مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي‏.‏ قال الكسائي‏:‏ كننت الشيء‏:‏ سترته وصنته من الشمس، وأكننته‏:‏ جعلته في الكنّ، ومنه كننت الجارية، وأكننتها فهي مكنونة‏.‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يسأل بعضهم بعضاً في الجنة عن حاله، وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة، فيحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهمّ، وما كانوا فيه من الكد، والنكد بطلب المعاش، وتحصيل ما لا بدّ منه من الرّزق‏.‏ وقيل‏:‏ يقول بعضهم لبعض‏:‏ بم صرتم في هذه المنزلة الرفيعة‏؟‏ وقيل‏:‏ إن التساؤل بينهم عند البعث من القبور‏.‏ والأوّل أولى، لدلالة السياق على أنهم قد صاروا في الجنة، وجملة ‏{‏قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل‏؟‏ فقيل‏:‏ قالوا‏:‏ إنا كنا قبل، أي‏:‏ قبل الآخرة، وذلك في الدنيا في أهلنا خائفين وجلين من عذاب الله، أو كنا خائفين من عصيان الله‏.‏ ‏{‏فَمَنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ بالمغفرة والرحمة، أو بالتوفيق لطاعته ‏{‏ووقانا عَذَابَ السموم‏}‏ يعني‏:‏ عذاب جهنم، والسموم من أسماء جهنم، كذا قال الحسن، ومقاتل‏.‏ وقال الكلبي، وأبو عبيدة‏:‏ هو عذاب النار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سموم جهنم‏:‏ ما يوجد من حرّها‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ السموم بالنهار، وقد يكون بالليل، والحرور بالليل، وقد يكون بالنهار، وقد يستعمل السموم في لفح البرد، وفي لفح الشمس، والحرّ أكثر، ومنه قول الشاعر‏:‏

اليوم يوم بارد سمومه *** من جزع اليوم فلا ألومه

وقيل‏:‏ سميت الريح سموماً؛ لأنها تدخل المسام‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ‏}‏ أي‏:‏ نوحد الله ونعبده، أو نسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرّحمة ‏{‏إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم‏}‏ قرأ الجمهور بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ نافع، والكسائي بفتحها، أي‏:‏ لأنه‏.‏ والبرّ‏:‏ كثير الإحسان، وقيل‏:‏ اللطيف، والرحيم‏:‏ كثير الرحمة لعباده ‏{‏فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبّكَ بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ اثبت على ما أنت عليه من الوعظ والتذكير، والباء متعلقة بمحذوف هو حال، أي‏:‏ ما أنت متلبساً بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل والنبوّة بكاهن، ولا مجنون، وقيل‏:‏ متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام، أي‏:‏ ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، وقيل‏:‏ الباء سببية متعلقة بمضمون الجملة المنفية، والمعنى‏:‏ انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك، كما تقول‏:‏ ما أنا بمعسر بحمد الله‏.‏ وقيل‏:‏ الباء للقسم متوسطة بين اسم «ما» وخبرها، والتقدير‏:‏ ما أنت- ونعمة الله- بكاهن ولا مجنون، والكاهن‏:‏ هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي، أي‏:‏ ليس ما تقوله كهانة، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله بإبلاغه‏.‏ والمقصود من الآية ردّ ما كان يقوله المشركون‏:‏ إنه كاهن، أو مجنون‏.‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏ «أم» هي المنقطعة، وقد تقدّم الخلاف هل هيّ مقدّرة ببل والهمزة، أو ببل وحدها‏؟‏ قال الخليل‏:‏ هي هنا للاستفهام‏.‏ قال سيبويه‏:‏ خوطب العباد بما جرى في كلامهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ يريد سيبويه أن «أم» في كلام العرب للخروج من حديث إلى حديث، ونتربص في محل رفع صفة لشاعر، وريب المنون‏:‏ صروف الدهر، والمعنى‏:‏ ننتظر به حوادث الأيام فيموت كما مات غيره، أو يهلك كما هلك من قبله، والمنون يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى المنيّة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ المعنى نتربص إلى ريب المنون، فحذف حرف الجرّ، كما تقول‏:‏ قصدت زيداً، وقصدت إلى زيد، ومن هذا قول الشاعر‏:‏

تربص بها ريب المنون لعلها *** تطلق يوماً أو يموت خليلها

وقول أبي ذؤيب الهذلي‏:‏

أمن المنون وريبها تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع

قال الأصمعي‏:‏ المنون واحد لا جمع له‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ يكون واحداً وجمعاً‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هو جمع لا واحد له‏.‏ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين‏}‏ أي‏:‏ انتظروا موتي، أو هلاكي، فإني معكم من المتربصين لموتكم، أو هلاككم‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏نتربص‏}‏ بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول‏.‏

‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم بهذا‏}‏ أي‏:‏ بل أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض، فإن الكاهن‏:‏ هو المفرط في الفطنة والذكاء، والمجنون‏:‏ هو ذاهب العقل فضلاً عن أن يكون له فطنة وذكاء‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول، فأزرأ الله بحلومهم حين لم تثمر لهم معرفة الحقّ من الباطل ‏{‏أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏ أي‏:‏ بل أطغوا وجاوزوا الحدّ في العناد، فقالوا ما قالوا، وهذه الإضرابات من شيء إلى شيء مع الاستفهام، كما هو مدلول «أم» المنقطعة، تدل على أن ما تعقبها أشنع مما تقدّمها، وأكثر جرأة وعناداً ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ‏}‏ أي‏:‏ اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله، والتقوّل لا يستعمل إلاّ في الكذب في الغالب، وإن كان أصله تكلف القول، ومنه اقتال عليه، ويقال‏:‏ اقتال عليه بمعنى‏:‏ تحكم عليه، ومنه قول الشاعر‏:‏

ومنزلة في دار صدق وغبطة *** وما اقتال في حكم عليّ طبيب

ثم أضرب سبحانه عن قولهم‏:‏ ‏{‏تَقَوَّلَهُ‏}‏ وانتقل إلى ما هو أشدّ شناعة عليهم فقال‏:‏ ‏{‏بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ سبب صدور هذه الأقوال المناقضة عنهم كونهم كفاراً لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم تحدّاهم سبحانه، وألزمهم الحجة فقال‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ مثل القرآن في نظمه، وحسن بيانه، وبديع أسلوبه ‏{‏إِن كَانُواْ صادقين‏}‏ فيما زعموا من قولهم‏:‏ إن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوّله، وجاء به من جهة نفسه مع أنه كلام عربيّ، وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم، والممارسون لجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ إن الله ليرفع ذرّية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقرّ به عينه‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم‏}‏ الآية‏.‏ وأخرجه البزار، وابن مردويه عنه مرفوعاً‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه، وزوجته، وولده، فيقال‏:‏ إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول‏:‏ يا ربّ قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به»، وقرأ ابن عباس ‏{‏والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية وإسناده هكذا‏.‏ قال عبد الله بن أحمد‏:‏ حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ سألت خديجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«هما في النار»، فلما رأى الكراهة في وجهها قال‏:‏ «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما»، قالت‏:‏ يا رسول الله فولديّ منك‏.‏ قال‏:‏ «في الجنة»، قال‏:‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار»، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وقال الإمام أحمد في المسند‏:‏ حدّثنا يزيد، حدّثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول‏:‏ يا ربّ من أين لي هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ باستغفار ولدك لك» وإسناده صحيح‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر، والحاكم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا ألتناهم‏}‏ قال‏:‏ ما نقصناهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه ‏{‏لاَّ لَغْوٌ فِيهَا‏}‏ يقول‏:‏ باطل ‏{‏وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏ يقول‏:‏ كذب‏.‏ وأخرج البزار عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدّثان، فيتكئ ذا، ويتكئ ذا، فيتحدّثان بما كانوا في الدنيا، فيقول أحدهما‏:‏ يا فلان تدري أيّ يوم غفر الله لنا‏؟‏ يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا» وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت‏:‏ لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ البر‏}‏ قال‏:‏ اللطيف‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عنه أن قريشاً لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم‏:‏ احبسوه في وثاق، وتربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء‏:‏ زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏رَيْبَ المنون‏}‏ قال‏:‏ الموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 49‏]‏

‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‏(‏35‏)‏ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ‏(‏39‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏40‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏41‏)‏ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏43‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ‏(‏44‏)‏ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ‏(‏45‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏48‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ‏}‏ «أم» هذه هي المنقطعة، كما تقدّم فيما قبلها، وكما سيأتي فيما بعدها، أي‏:‏ بل أخلقوا على هذه الكيفية البديعة، والصنعة العجيبة من غير خالق لهم‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ أخلقوا باطلاً لغير شيء لا يحاسبون، ولا يؤمرون، ولا ينهون‏؟‏ وجعل «مِنْ» بمعنى اللام‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ أم خلقوا عبثاً، وتركوا سدًى لا يؤمرون، ولا ينهون‏؟‏ وقيل المعنى‏:‏ أم خلقوا من غير أب ولا أمّ، فهم كالجماد لا يفهمون، ولا تقوم عليهم حجة‏؟‏ ‏{‏أَمْ هُمُ الخالقون‏}‏ أي‏:‏ بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم، فلا يؤمرون ولا ينهون مع أنهم يقرّون أن الله خالقهم‏؟‏ وإذا أقرّوا لزمتهم الحجة ‏{‏أَمْ خَلَقُواْ السموات والارض‏}‏ وهم لا يدّعون ذلك، فلزمتهم الحجة، ولهذا أضرب عن هذا، وقال ‏{‏بَل لاَّ يُوقِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ ليسوا على يقين من الأمر، بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده ‏{‏أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ خزائن أرزاق العباد، وقيل‏:‏ مفاتيح الرحمة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يقول‏:‏ أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة، فيضعونها حيث شاءوا‏؟‏ وكذا قال عكرمة‏:‏ وقال الكلبي‏:‏ خزائن المطر والرزق ‏{‏أَمْ هُمُ المصيطرون‏}‏ أي‏:‏ المسلطون الجبارون، قال في الصحاح‏:‏ المسيطر‏:‏ المسلط على الشيء، ليشرف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر؛ لأن الكتاب يسطر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ سطرت عليّ‏:‏ اتخذتني خولاً لك‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏المصيطرون‏}‏ بالصاد الخالصة، وقرأ ابن محيصن، وحميد، ومجاهد، وقنبل، وهشام بالسين الخالصة، ورويت هذه القراءة عن حفص، وقرأ خلاد بصاد مشمة زاياً‏.‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ بل أيقولون‏:‏ إن لهم سلماً منصوباً إلى السماء يصعدون به، ويستمعون فيه كلام الملائكة، وما يوحى إليهم، ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي، وقوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ‏}‏ صفة لسلم، وهي للظرفية على بابها، وقيل‏:‏ هي بمعنى على، أي‏:‏ يستمعون عليه كقوله‏:‏ ‏{‏وَلأصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏ قاله الأخفش‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ يستمعون به‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أنهم كجبريل الذي يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي، وقيل‏:‏ هي في محلّ نصب على الحال، أي‏:‏ صاعدين فيه ‏{‏فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم‏}‏ إن ادّعى ذلك ‏{‏بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ بحجة واضحة ظاهرة ‏{‏أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون‏}‏ أي‏:‏ بل أتقولون لله البنات ولكم البنون، سفه سبحانه أحلامهم، وضلل عقولهم ووبخهم، أي‏:‏ أيضيفون إلى الله البنات وهي أضعف الصنفين، ويجعلون لأنفسهم البنين، وهم أعلاهما، وفيه إشعار بأن من كان هذا رأيه، فهو بمحلّ سافل في الفهم والعقل، فلا يستبعد منه إنكار البعث وجحد التوحيد‏.‏

ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً‏}‏ أي‏:‏ بل أتسألهم أجراً يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة ‏{‏فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ من التزام غرامة تطلبها منهم مثقلون، أي‏:‏ مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل‏.‏ قال قتادة‏:‏ يقول‏:‏ هل سألت هؤلاء القوم أجراً فجهدهم، فلا يستطيعون الإسلام‏؟‏ ‏{‏أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ أي‏:‏ بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب‏؟‏ وهو ما في اللوح المحفوظ فهم يكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب‏.‏ قال قتادة‏:‏ هذا جواب لقولهم‏:‏ ‏{‏نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏ يقول الله‏:‏ أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم، فهم يكتبون‏؟‏ قال ابن قتيبة‏:‏ معنى يكتبون‏:‏ يحكمون بما يقولون ‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً‏}‏ أي‏:‏ مكراً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهلكونه بذلك المكر ‏{‏فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون‏}‏ أي‏:‏ الممكور بهم المجزيون بكيدهم، فضرر كيدهم يعود عليهم ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏ وقد قتلهم الله في يوم بدر، وأذلهم في غير موطن، ومكر سبحانه بهم ‏{‏وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله‏}‏ أي‏:‏ بل أيدّعون أن لهم إلها غير الله يحفظهم ويرزقهم وينصرهم‏؟‏‏!‏ ثم نزّه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنعاء فقال‏:‏ ‏{‏سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ عن شركهم به، أو عن الذين يجعلونهم شركاء له‏.‏ ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السماء ساقطا يَقُولُواْ سحاب مَّرْكُومٌ‏}‏ الكسف جمع كسفة‏:‏ وهي القطعة من الشيء، وانتصاب ساقطاً على الحال، أو على أنه المفعول الثاني، والمركوم‏:‏ المجعول بعضه على بعض‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم إن يروا كسفاً من السماء ‏{‏ساقطاً‏}‏ عليهم لعذابهم، لم ينتهوا عن كفرهم بل يقولون‏:‏ هو سحاب متراكم بعضه على بعض، وقد تقدّم اختلاف القرّاء في ‏{‏كسفاً‏}‏، قال الأخفش‏:‏ من قرأ ‏{‏كسفاً‏}‏، يعني‏:‏ بكسر الكاف وسكون السين جعله واحداً، ومن قرأ «كسفاً»، يعني‏:‏ بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعاً‏.‏ ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ‏}‏ أي‏:‏ اتركهم وخلّ عنهم حتى يلاقوا يوم موتهم، أو يوم قتلهم ببدر، أو يوم القيامة‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يلاقوا‏}‏ وقرأ أبو حيوة ‏(‏يلقوا‏)‏ وقرأ الجمهور‏:‏ «يصعقون» على البناء للفاعل، وقرأ ابن عامر، وعاصم على البناء للمفعول، والصعقة‏:‏ الهلاك على ما تقدّم بيانه ‏{‏يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً‏}‏ هو بدل من يومهم، أي‏:‏ لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع، بل هو واقع بهم لا محالة ‏{‏وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذاباً في الدنيا دون عذاب يوم القيامة، أي‏:‏ قبله، وهو قتلهم يوم بدر‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ هو مصائب الدنيا من الأوجاع، والأسقام، والبلايا، وذهاب الأموال والأولاد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الجوع، والجهد سبع سنين، وقيل‏:‏ عذاب القبر، وقيل‏:‏ المراد بالعذاب‏:‏ هو القحط، وبالعذاب الذي يأتي بعده‏:‏ هو قتلهم يوم بدر ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ما يصيرون إليه من عذاب الله، وما أعدّه لهم في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ‏}‏ إلى أن يقع لهم العذاب الذي وعدناهم به ‏{‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ أي‏:‏ بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا، فلا تبال بهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إنك بحيث نراك ونحفظك، ونرعاك فلا يصلون إليك ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ أي‏:‏ نزّه ربك عما لا يليق به متلبساً بحمد ربك على إنعامه عليك حين تقوم من مجلسك‏.‏ قال عطاء، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوري، وأبو الأحوص‏:‏ يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول‏:‏ سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، عند قيامه من كل مجلس يجلسه‏.‏ وقال محمد بن كعب، والضحاك، والربيع بن أنس‏:‏ حين تقوم إلى الصلاة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ يقول‏:‏ الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وفيه نظر؛ لأن التكبير يكون بعد القيام لا حال القيام، ويكون التسبيح بعد التكبير، وهذا غير معنى الآية، فالأوّل أولى‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ صلّ لله حين تقوم من منامك، وبه قال أبو الجوزاء، وحسان بن عطية‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة، وهي صلاة الفجر‏.‏ ‏{‏وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ‏}‏ أمره الله سبحانه أن يسبّحه في بعض الليل‏.‏ قال مقاتل‏:‏ أي‏:‏ صلّ المغرب والعشاء، وقيل‏:‏ ركعتي الفجر ‏{‏وإدبار النجوم‏}‏ أي‏:‏ وقت إدبارها من آخر الليل، وقيل‏:‏ صلاة الفجر، واختاره ابن جرير، وقيل‏:‏ هو التسبيح في إدبار الصلوات، قرأ الجمهور ‏{‏إدبار‏}‏ بكسر الهمزة على أنه مصدر، وقرأ سالم بن أبي الجعد، ومحمد بن السميفع، ويعقوب، والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع، أي‏:‏ أعقاب النجوم وأدبارها‏:‏ إذا غربت، ودبر الأمر‏:‏ آخره، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة «قا»‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ هُمُ المصيطرون‏}‏ قال‏:‏ المسلطون، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه قال‏:‏ أم هم المنزلون‏.‏ وأخرجا عنه أيضاً ‏{‏عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ‏}‏ قال‏:‏ عذاب القبر قبل يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بآخرة إذا قام من المجلس يقول‏:‏

«سبحانك اللَّهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك» فقال رجل‏:‏ يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى، قال‏:‏ «كفارة لما يكون في المجلس» وأخرجه النسائي، والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية، عن رافع بن خديج، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج الترمذي، وابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه‏:‏ سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك» قال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ قال‏:‏ حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ‏}‏ قال‏:‏ «الركعتان قبل صلاة الصبح» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏وإدبار النجوم‏}‏ قال‏:‏ ركعتي الفجر‏.‏

سورة النجم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 26‏]‏

‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏(‏1‏)‏ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏(‏3‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏(‏5‏)‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ‏(‏8‏)‏ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ‏(‏9‏)‏ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏(‏10‏)‏ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ‏(‏11‏)‏ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ‏(‏12‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ‏(‏13‏)‏ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ‏(‏14‏)‏ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ‏(‏16‏)‏ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ‏(‏18‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ‏(‏19‏)‏ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ‏(‏20‏)‏ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ‏(‏21‏)‏ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ‏(‏22‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ‏(‏23‏)‏ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ‏(‏24‏)‏ فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏والنجم إِذَا هوى‏}‏ التعريف للجنس، والمراد به‏:‏ جنس النجوم، وبه قال جماعة من المفسرين، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏

أحسن النجم في السماء الثريا *** والثريا في الأرض زين النساء

وقيل‏:‏ المراد به‏:‏ الثريا، وهو اسم غلب فيها، تقول العرب‏:‏ النجم، وتريد به الثريا، وبه قال مجاهد، وغيره، وقال السديّ، النجم هنا‏:‏ هو الزهرة؛ لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها، وقيل‏:‏ النجم هنا‏:‏ النبت الذي لا ساق له، كما في قوله‏:‏ ‏{‏والنجم والشجر يَسْجُدَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 6‏]‏ قاله الأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ النجم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ النجم القرآن؛ وسمي نجماً لكونه نزل منجماً مفرّقاً، والعرب تسمي التفريق تنجيماً، والمفرّق‏:‏ المنجم، وبه قال مجاهد، والفراء، وغيرهما، والأوّل أولى‏.‏ قال الحسن‏:‏ المراد بالنجم‏:‏ النجوم إذا سقطت يوم القيامة‏.‏ وقيل المراد بها‏:‏ النجوم التي ترجم بها الشياطين، ومعنى هويه‏:‏ سقوطه من علو، يقال‏:‏ هوى النجم يهوي هوياً‏:‏ إذا سقط من علو إلى سفل، وقيل‏:‏ غروبه، وقيل‏:‏ طلوعه، والأوّل أولى، وبه قال الأصمعي وغيره، ومنه قول زهير‏:‏

تسيح بها الأباعر وهي تهوى *** هويّ الَّدلْوِ أسْلَمَها الرشَاءُ

ويقال‏:‏ هوى في السير‏:‏ إذا مضى؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

بينما نَحْنُ بالبِلاكثِ فالقا *** عِ سِراعاً والعِيسُ تَهْوِى هُويا

خَطَرتْ خَطْرة على القلب من ذك *** رَاكِ وَهناً فما استطعت مُضيا

ومعنى الهوَي على قول من فسر النجم بالقرآن‏:‏ أنه نزل من أعلا إلى أسفل، وأما على قول من قال إنه الشجر الذي لا ساق له، أو أنه محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يظهر للهويّ معنى صحيح، والعامل في الظرف فعل القسم المقدّر، وجواب القسم قوله‏:‏ ‏{‏مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى‏}‏ أي‏:‏ ما ضلّ محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق والهدى، ولا عدل عنه، والغيّ‏:‏ ضدّ الرشد، أي‏:‏ ما صار غاوياً ولا تكلم بالباطل، وقيل‏:‏ ما خاب فيما طلب، والغَيّ‏:‏ الخيبة، ومنه قول الشاعر‏:‏

فمن يْلَق خيراً يحمِد النَّاسُ أَمْرَهُ *** وَمْن يَغْوَ لا يعدم على الغيِّ لائماً

وفي قوله‏:‏ ‏{‏صاحبكم‏}‏ إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله، والخطاب لقريش ‏{‏وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى‏}‏ أي‏:‏ ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره، فعن على بابها‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ إنّ عن بمعنى الباء أي‏:‏ بالهوى‏.‏ قال قتادة‏:‏ أي‏:‏ ما ينطق بالقراءة عن هواه ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى‏}‏ أي‏:‏ ما هو الذي ينطق به إلاّ وحي من الله يوحيه إليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُوحَى‏}‏ صفة لوحي تفيد الاستمرار التجددي، وتفيد نفي المجاز، أي‏:‏ هو وحي حقيقة لا لمجرد التسمية ‏{‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى‏}‏ القوى جمع قوّة، والمعنى‏:‏ أنه علمه جبريل الذي هو شديد قواه، هكذا قال أكثر المفسرين‏:‏ إن المراد‏:‏ جبريل‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هو الله عزّ وجلّ، والأوّل أولى، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ‏{‏ذُو مِرَّةٍ فاستوى‏}‏ المرّة‏:‏ القوّة والشدّة في الخلق، وقيل‏:‏ ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه قول النبيّ‏:‏ «لا تحل الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سوي» وقيل‏:‏ ذو حصانة عقل، ومتانة رأي‏.‏ قال قطرب‏:‏ العرب تقول لكلّ من هو جزل الرأي، حصيف العقل ذو مرّة، ومنه قول الشاعر‏:‏

قد كنت قبلَ لِقائكُمُ ذا مِرّةٍ *** عندي لِكلُّ مخاصِمٍ مِيزانُهُ

والتفسير للمرّة بهذا أولى؛ لأن القوّة والشدّة قد أفادها قوله‏:‏ ‏{‏شَدِيدُ القوى‏}‏ قال الجوهري‏:‏ المرّة إحدى الطبائع الأربع، والمرّة‏:‏ القوّة وشدّة العقل، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فاستوى‏}‏ للعطف على علَّمه، يعني جبريل، أي‏:‏ ارتفع وعاد إلى مكانه في السماء بعد أن علم محمداً صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وقيل‏:‏ معنى استوى‏:‏ قام في صورته التي خلقه الله عليها؛ لأنه كان يأتي النبي في صورة الآدميين، وقيل المعنى‏:‏ فاستوى القرآن في صدره صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الحسن‏:‏- فاستوى يعني‏:‏ الله عزّ وجلّ- على العرش ‏{‏وَهُوَ بالأفق الأعلى‏}‏ هذه الجملة في محل نصب على الحال أي‏:‏ فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى، والمراد بالأفق الأعلى‏:‏ جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، وقيل المعنى‏:‏ فاستوى عالياً، والأفق‏:‏ ناحية السماء، وجمعه آفاق، قال قتادة، ومجاهد‏:‏ هو الموضع الذي تطلع منه الشمس، وقيل‏:‏ هو يعني جبريل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فتدلى‏}‏ أي‏:‏ دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، أي‏:‏ قرب من الأرض فتدلى، فنزل على النبيّ بالوحي، وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ ثم تدلى فدنى، قاله ابن الأنباري، وغيره‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى ‏{‏دَنَا فتدلى‏}‏ واحد، أي‏:‏ قرب وزاد في القرب؛ كما تقول‏:‏ فدنا مني فلان وقرب، ولو قلت‏:‏ قرب مني ودنا جاز‏.‏ قال الفراء‏:‏ الفاء في فتدلى بمعنى الواو، والتقدير‏:‏ ثم تدلى جبريل ودنا، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحداً أن تقدّم أيهما شئت‏.‏ قال الجمهور‏:‏ والذي دنا فتدلى هو جبريل، وقيل‏:‏ هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ دنا منه أمره وحكمه، والأوّل أولى‏.‏ قيل‏:‏ ومن قال‏:‏ إن الذي استوى هو جبريل ومحمد، فالمعنى عنده‏:‏ ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة، فتدلى، أي‏:‏ هوى للسجود، وبه قال الضحاك ‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى‏}‏ أي‏:‏ فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، أو ما بين محمد وربه قاب قوسين، أي‏:‏ قدر قوسين عربيين‏.‏

والقاب والقيب، والقاد والقيد‏:‏ المقدار، ذكر معناه في الصحاح‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ فيما تقدّرون أنتم، والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا‏.‏ وقيل‏:‏ «أو» بمعنى الواو، أي‏:‏ وأدنى، وقيل‏:‏ بمعنى بل، أي‏:‏ بل أدنى‏.‏ وقال سعيد بن جبير، وعطاء، وأبو إسحاق الهمداني، وأبو وائل شقيق بن سلمة ‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ‏}‏‏:‏ قدر ذراعين، والقوس‏:‏ الذّراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض الحجازيين، وقيل‏:‏ هي لغة أزد شنوءة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ فكان قاب قوسين أراد قوساً واحدة‏.‏ ‏{‏فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى‏}‏ أي‏:‏ فأوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وفيه تفخيم للوحي الذي أوحي إليه، والوحي‏:‏ إلقاء الشيء بسرعة، ومنه الوحا وهو السرعة، والضمير في ‏{‏عبده‏}‏ يرجع إلى الله، كما في قوله‏:‏ ‏{‏مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏ وقيل المعنى‏:‏ فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وبالأوّل قال الربيع، والحسن، وابن زيد، وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ فأوحى الله إلى عبده محمد‏.‏ قيل‏:‏ وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل إلى محمد، أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل، أو إلى محمد ولم يبينه لنا، فليس لنا أن نتعرّض لتفسيره‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ الذي أوحى إليه هو ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏ إلخ، و‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏ إلخ‏.‏ وقيل‏:‏ أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك‏.‏ وقيل‏:‏ إن «ما» للعموم لا للإبهام، والمراد‏:‏ كل ما أوحى به إليه، والحمل على الإبهام أولى لما فيه من التعظيم‏.‏ ‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى‏}‏ أي‏:‏ ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره ليلة المعراج، يقال‏:‏ كذبه‏:‏ إذا قال له الكذب، ولم يصدقه‏.‏ قال المبرد‏:‏ معنى الآية‏:‏ أنه رأى شيئًا فصدق فيه، قرأ الجمهور‏:‏ ‏(‏ما كذب‏)‏ مخففاً، وقرأ هشام، وأبو جعفر بالتشديد «وَمَا» في‏:‏ ‏{‏مَا رأى‏}‏ موصولة أو مصدرية في محل نص ‏{‏بكذب‏}‏ مخففاً ومشدّداً ‏{‏أفتمارونه على مَا يرى‏}‏‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أفتمارونه‏}‏ بالألف من المماراة، وهي المجادلة والملاحاة، وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏(‏أفتمرونه‏)‏ بفتح التاء وسكون الميم، أي‏:‏ أفتجدونه، واختار أبو عبيد القراءة الثانية‏.‏ قال‏:‏ لأنهم لم يماروه، وإنما جحدوه، يقال‏:‏ مراه حقه، أي‏:‏ جحده، ومريته أنا‏:‏ جحدته، قال‏:‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

لأن هَجَوْتَ أَخَا صِدْق وَمْكرُمَة *** لَقَدْ مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْريكا

أي‏:‏ جحدته‏.‏ قال المبرد‏:‏ يقال‏:‏ أمرأه عن حقه، وعلى حقه‏:‏ إذا منعه منه ودفعه‏.‏ وقيل‏:‏ على بمعنى عن، وقرأ ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد، والأعرج‏:‏ ‏(‏أفتمرونه‏)‏ بضم التاء من أمريت، أي‏:‏ أتريبونه وتشكون فيه، قال جماعة من المفسرين‏:‏ المعنى على قراءة الجمهور‏:‏ أفتجادلونه، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا‏:‏ صف لنا مسجد بيت المقدس، أي‏:‏ أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى‏}‏ هي الموطئة للقسم، أي‏:‏ والله لقد رآه نزلة أخرى، والنزلة‏:‏ المرة من النزول، فانتصابها على الظرفية، أو منتصبة على المصدر الواقع موقع الحال، أي‏:‏ رأى جبريل نازلاً نزلة أخرى، أو على أنه صفة مصدر مؤكد محذوف، أي‏:‏ رآه رؤية أخرى‏.‏

قال جمهور المفسرين‏:‏ المعنى أنه رأى محمد جبريل مرّة أخرى، وقيل‏:‏ رأى محمد ربه مرّة أخرى بفؤاده ‏{‏عِندَ سِدْرَةِ المنتهى‏}‏ الظرف منتصب ب ‏{‏رآه‏}‏، والسدر‏:‏ هو شجر النبق، وهذه السدرة هي في السماء السادسة، كما في الصحيح، وروي أنها في السماء السابعة، والمنتهى‏:‏ مكان الانتهاء، أو هو مصدر ميمي، والمراد به‏:‏ الانتهاء نفسه، قيل‏:‏ إليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها، وقيل‏:‏ ينتهي إليها ما يعرج به في الأرض، وقيل‏:‏ تنتهي إليها أرواح الشهداء، وقيل غير ذلك‏.‏ وإضافة الشجرة إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه ‏{‏عِندَهَا جَنَّةُ المأوى‏}‏ أي‏:‏ عند تلك السدرة جنة تعرف بجنة المأوى، وسميت جنة المأوى لأنه أوى إليها آدم، وقيل‏:‏ إن أرواح المؤمنين تأوي إليها‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏جنة‏}‏ برفع جنة على أنها مبتدأ، وخبرها الظرف المتقدّم‏.‏ وقرأ عليّ، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وابن الزبير، وأنس، وزر بن حبيش، ومحمد بن كعب، ومجاهد، وأبو سبرة الجهني‏:‏ ‏(‏جنه‏)‏ فعلاً ماضياً من جنّ يجن، أي‏:‏ ضمه المبيت، أو سترة إيواء الله له، قال الأخفش‏:‏ أدركه، كما تقول‏:‏ جنه الليل أي‏:‏ ستره وأدركه، والجملة في محل نصب على الحال ‏{‏إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى‏}‏ العامل في الظرف ‏{‏رآه‏}‏ أيضاً، وهو ظرف زمان، والذي قبله ظرف مكان، والغشيان بمعنى‏:‏ التغطية والستر، وبمعنى الإتيان، يقال‏:‏ فلان يغشاني كل حين أي‏:‏ يأتيني، وفي الإبهام في قوله‏:‏ ‏{‏مَا يغشى‏}‏ من التفخيم ما لا يخفى، وقيل‏:‏ يغشاها جراد من ذهب، وقيل‏:‏ طوائف من الملائكة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ رفرف أخضر، وقيل‏:‏ رفرف من طيور خضر، وقيل‏:‏ غشيها أمر الله، والمجيء بالمضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً للصورة البديعة، أو للدلالة على الاستمرار التجددي‏.‏ ‏{‏مَا زَاغَ البصر‏}‏ أي‏:‏ ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم عما رآه ‏{‏وَمَا طغى‏}‏ أي‏:‏ ما جاوز ما رأى، وفي هذا وصف أدب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، حيث لم يلتفت، ولم يمل بصره، ولم يمده إلى غير ما رأى، وقيل‏:‏ ما جاوز ما أمر به ‏{‏لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى‏}‏ أي‏:‏ والله لقد رأى تلك الليلة من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف، قيل‏:‏ رأى رفرفاً سدّ الأفق، وقيل‏:‏ رأى جبريل في حلة خضراء قد ملأ ما بين السماء والأرض له ستمائة جناح، كذا في صحيح مسلم، وغيره، وقال الضحاك‏:‏ رأى سدرة المنتهى، وقيل‏:‏ هو كل ما رآه تلك الليلة في مسراه وعوده، و«من» للتبعيض، ومفعول رأى‏:‏ الكبرى، ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً، أي‏:‏ رأى شيئًا عظيماً من آيات ربه، ويجوز أن تكون «من» زائدة‏.‏

‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ لما قصّ الله سبحانه هذه الأقاصيص قال للمشركين، موبخاً لهم ومقرّعاً ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ‏}‏ أي‏:‏ أخبروني عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها قدرة توصف بها‏؟‏ وهل أوحت إليكم شيئًا، كما أوحى الله إلى محمد، أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع‏؟‏ ثم ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب، وعظم اعتقادهم فيها‏.‏ قال الواحدي وغيره‏:‏ وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى، فقالوا‏:‏ من الله اللات، ومن العزيز العزّى، وهي تأنيث الأعزّ بمعنى العزيزة، ومناة من منى الله الشيء‏:‏ إذا قدّره‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏اللات‏}‏ بتخفيف التاء، فقيل‏:‏ هو مأخوذ من اسم الله سبحانه كما تقدّم، وقيل‏:‏ أصله‏:‏ لات يليت، فالتاء أصلية، وقيل‏:‏ هي زائدة، وأصله لوى يلوي؛ لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها، أو يلتون عليها، ويطوفون بها‏.‏ واختلف القراء هل يوقف عليها بالتاء، أو بالهاء‏؟‏ فوقف عليها الجمهور بالتاء، ووقف عليها الكسائي بالهاء، واختار الزجاج، والفراء الوقف بالتاء؛ لاتباع رسم المصحف، فإنها تكتب بالتاء، وقرأ ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، ومنصور بن المعتمر، وأبو الجوزاء، وأبو صالح، وحميد‏:‏ ‏(‏اللات‏)‏ بتشديد التاء، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير، فقيل‏:‏ هو اسم رجل كان يلتّ السويق، ويطعمه الحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان رجلاً في رأس جبل يتخذ من لبنها وسمنها حيساً، ويطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كان رجلاً من ثقيف له صرمة غنم، وقيل‏:‏ إنه عامر بن الظرب العدواني، وكان هذا الصنم لثقيف، وفيه يقول الشاعر‏:‏

لا تنْصُروا اللاتَ إنَّ اللهَ مُهْلِكُها *** وَكَيْفَ يَنْصُرُكُمْ مَنْ لَيْسَ يَنْتَصِرُ

قال في الصحاح‏:‏ و‏{‏اللات‏}‏ اسم صنم لثقيف، وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء ‏{‏والعزى‏}‏‏:‏ صنم قريش، وبني كنانة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي شجرة كانت بغطفان، وكانوا يعبدونها، فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فقطعها، وقيل‏:‏ كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ العزى‏:‏ حجر أبيض كانوا يعبدونه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هي بيت كان ببطن نخلة ‏{‏ومناة‏}‏‏:‏ صنم بني هلال‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ صنم هذيل وخزاعة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانت للأنصار‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏مناة‏}‏ بألف من دون همزة، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد، ومجاهد، والسلمي بالمدّ والهمز‏.‏ فأما قراءة الجمهور، فاشتقاقها من منى يمنى، أي‏:‏ صبّ؛ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها يتقرّبون بذلك إليها‏.‏ وأما على القراءة الثانية، فاشتقاقها من النوء، وهو المطر؛ لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، وقيل‏:‏ هما لغتان للعرب، ومما جاء على القراءة الأولى قول جرير‏:‏

أزيد مناة توعد يابن تيم *** تأمل أين تاه بك الوعيد

ومما جاء على القراءة الأخرى قول الحارثي‏:‏

ألا هَلْ أتى التَّيْم بن عبد مناءة *** على السر فيما بيننا ابنُ تَمِيمِ

وقف جمهور القراء عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف، ووقف ابن كثير، وابن محيصن عليها بالهاء‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ ومناة اسم صنم كان بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث، ويسكت عليها بالتاء، وهي لغة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏الثالثة الأخرى‏}‏ هذا وصف لمناة، وصفها بأنها ثالثة، وبأنها أخرى، والثالثة لا تكون إلاّ أخرى‏.‏ قال أبو البقاء‏:‏ فالوصف بالأخرى للتأكيد، وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف به الثانية، فقال الخليل‏:‏ إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله‏:‏ ‏{‏مَآرِبُ أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ أفرأيتم اللات والعزّى الأخرى ومناة الثالثة‏.‏ وقيل‏:‏ إن وصفها بالأخرى لقصد التعظيم؛ لأنها كانت عند المشركين عظيمة، وقيل‏:‏ إن ذلك للتحقير والذم، وإن المراد المتأخرة الوضيعة، كما في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ أي‏:‏ وضعاؤهم لرؤسائهم‏.‏ ثم كرّر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها، فقال‏:‏ ‏{‏أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى‏}‏ أي‏:‏ كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث، وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور، قيل‏:‏ وذلك قولهم‏:‏ إن الملائكة بنات الله، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ كيف تجعلون اللات، والعزّى ومناة، وهي إناث في زعمكم، شركاء لله، ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث‏.‏ ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية، والقسمة المفهومة من الاستفهام قسمة جائرة، فقال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏ضيزى‏}‏ بياء ساكنة بغير همزة، وقرأ ابن كثير بهمزة ساكنة، والمعنى‏:‏ أنها قسمة خارجة عن الصواب، جائرة عن العدل، مائلة عن الحق‏.‏ قال الأخفش‏:‏ يقال‏:‏ ضاز في الحكم، أي‏:‏ جار، وضازه حقه يضيزه ضيزاً، أي‏:‏ نقصه وبخسه، قال‏:‏ وقد يهمز، وأنشد‏:‏

فإن تَنْأء عَنَّا نَنْتِقصْك وإِن تَغِبْ *** فحقك مضئؤوز وَأنفُكَ رَاغِمُ

وقال الكسائي‏:‏ ضاز يضيز ضيزاً، ء وضاز يضوز ضوزاً‏:‏ إذا تعدى وظلم وبخس وانتقص، ومنه قول الشاعر‏:‏

ضازَتْ بنو أَسدٍ بِحُكمِهِم *** إِذْ يَجْعَلُون الرأسَ كالذَّنَبِ

قال الفراء‏:‏ وبعض العرب يقول‏:‏ «ضئزى» بالهمز، وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع العرب تهمز ضيزى، قال البغوي‏:‏ ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت إنما تكون في الأسماء مثل ذكرى، قال المؤرج‏:‏ كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واواً وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض‏:‏ بيض، وكذا قال الزجاج‏:‏ وقيل‏:‏ هي مصدر كذكرى، فيكون المعنى‏:‏ قسمة ذات جور وظلم‏.‏

ثم ردّ سبحانه عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءآبَاؤُكُم‏}‏ أي‏:‏ ما الأوثان، أو الأصنام باعتبار ما تدعونه من كونها آلهة إلاّ أسماء محضة، ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها؛ لأنها لا تبصر ولا تسمع، ولا تعقل ولا تفهم، ولا تضر ولا تنفع، فليست إلاّ مجرّد أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، قلد الآخر فيها الأول‏.‏ وتبع في ذلك الأبناء الآباء، وفي هذا من التحقير لشأنها ما لا يخفى، كما تقول في تحقير رجل‏:‏ ما هو إلاّ اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة، ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 40‏]‏ يقال‏:‏ سميته زيداً وسميته بزيد، فقوله‏:‏ ‏{‏سميتموها‏}‏ صفة لأصنام، والضمير يرجع إلى الأسماء لا إلى الأصنام، أي‏:‏ جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏هِىَ‏}‏ راجع إلى الأسماء الثلاثة المذكورة، والأوّل أولى ‏{‏مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان‏}‏ أي‏:‏ ما أنزل بها من حجة ولا برهان‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لم ينزل لنا كتاباً لكم فيه حجة، كما تقولون‏:‏ إنها آلهة، ثم أخبر عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ أي‏:‏ ما يتبعون فيما ذكر من التسمية، والعمل بموجبها إلاَّ الظنّ الذي لا يغني من الحق شيئًا، والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم وتحقيراً لشأنهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَهْوَى الأنفس‏}‏ أي‏:‏ تميل إليه، وتشتهيه من غير التفات إلى ما هو الحق الذي يجب الاتباع له‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏يتبعون‏}‏ بالتحتية على الغيبة، وقرأ عيسى بن عمر، وأيوب، وابن السميفع بالفوقية على الخطاب، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، وابن عباس، وطلحة، وابن وثاب ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى‏}‏ أي‏:‏ البيان الواضح الظاهر بأنها ليست بآلهة، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يتبعون، ويجوز أن يكون اعتراضاً، والأوّل أولى‏.‏ والمعنى‏:‏ كيف يتبعون ذلك، والحال أن قد جاءهم ما فيه هدًى لهم من عند الله على لسان رسوله الذي بعثه الله بين ظهرانيهم، وجعله من أنفسهم‏.‏ ‏{‏أَمْ للإنسان مَا تمنى‏}‏ «أم» هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة التي للإنكار، فأضرب عن اتباعهم الظنّ الذي هو مجرّد التوهم، وعن اتباعهم هوى الأنفس، وما تميل إليه، وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم، وتشفع لهم‏.‏

ثم علل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله‏:‏ ‏{‏فَلِلَّهِ الآخرة والأولى‏}‏ أي‏:‏ أن أمور الآخرة والدنيا بأسرها لله عزّ وجلّ، فليس لهم معه أمر من الأمور، ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة، وأطماعهم الفارغة، ثم أكد ذلك، وزاد في إبطال ما يتمنونه، فقال‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السموات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً‏}‏ وكم هنا هي الخبرية المفيدة للتكثير، ومحلها الرفع على الابتداء، والجملة بعدها خبرها، ولما في ‏{‏كم‏}‏ من معنى التكثير، جمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك، والمعنى‏:‏ التوبيخ لهم بما يتمنون، ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع كثرة عبادتها، وكرامتها على الله لا تشفع إلاّ لمن أذن أن يشفع له، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله‏}‏ لهم بالشفاعة ‏{‏لِمَن يَشَاء‏}‏ أن يشفعوا له ‏{‏ويرضى‏}‏ بالشفاعة له لكونه من أهل التوحيد، وليس للمشركين في ذلك حظّ، ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ولا يرضاها؛ لكونهم ليسوا من المستحقين لها‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس ‏{‏والنجم إِذَا هوى‏}‏ قال‏:‏ إذا انصبّ‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه قال‏:‏ هو الثريا إذا تدلت‏.‏ وأخرج عنه أيضاً قال‏:‏ أقسم الله أن ما ضلّ محمد، ولا غوى‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏ذُو مِرَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ ذو خلق حسن‏.‏ وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلاّ مرّتين، أما واحدة‏:‏ فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته، فسدّ الأفق، وأما الثانية‏:‏ فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ بالافق الأعلى‏}‏‏.‏ ‏{‏لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى‏}‏ قال‏:‏ خلق جبريل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح»، وأخرجه أحمد عنه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ‏{‏وَهُوَ بالافق الاعلى‏}‏ قال‏:‏ مطلع الشمس‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى‏}‏ قال‏:‏ رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح‏.‏ وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عنه في قوله‏:‏ ‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى‏}‏ قال‏:‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلة رفرف أخضر قد ملأ ما بين السماء والأرض‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فتدلى‏}‏ قال‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم دنا فتدلى إلى ربه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عنه قال‏:‏ دنا ربه فتدلى‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال‏:‏ القاب‏:‏ القيد، والقوسين‏:‏ الذراعين‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم اقترب من ربه، فكان قاب قوسين أو أدنى، ألم ترى إلى القوس ما أقربها من الوتر‏.‏ وأخرج النسائي، وابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس ‏{‏فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى‏}‏ قال‏:‏ عبده محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج مسلم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله‏:‏ ‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى‏}‏ قال‏:‏ رأى محمد ربه بقلبه مرّتين‏.‏ وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أنس قال‏:‏ رأى محمد ربه‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه قال‏:‏ رأى محمد ربه مرّتين مرّة ببصره، ومرّة بفؤاده‏.‏ وأخرج الترمذي وحسنه، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي عنه أيضاً قال‏:‏ لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه عزّ وجلّ‏.‏ وأخرج النسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد‏؟‏ وقد روي نحو هذا عنه من طرق‏.‏ وأخرج مسلم، والترمذي، وابن مردويه عن أبي ذرّ قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك‏؟‏ قال‏:‏ «نور أنى أراه‏؟‏» وأخرج مسلم، وابن مردويه عنه‏:‏ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك‏؟‏ قال‏:‏ «رأيت نوراً» وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه، ولم يره ببصره‏.‏ وأخرج مسلم عن أبي هريرة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى‏}‏ قال‏:‏ جبريل‏.‏ وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن مسعود قال‏:‏ لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة ينتهي ما يعرج من الأرواح، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها ‏{‏إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى‏}‏ قال‏:‏ فراش من ذهب‏.‏ وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال‏:‏ الجنة في السماء السابعة العليا، والنار في الأرض السابعة السفلى‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ كان اللات رجلاً يلتّ السويق للحاجّ‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه أن العزى كانت ببطن نخلة، وأن اللات كانت بالطائف، وأن مناة كانت بقديد‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ‏{‏ضيزى‏}‏ قال‏:‏ جائرة لا حقّ لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 42‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ‏(‏27‏)‏ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ‏(‏28‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ‏(‏30‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ‏(‏32‏)‏ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ‏(‏33‏)‏ وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى ‏(‏34‏)‏ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ‏(‏35‏)‏ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ‏(‏37‏)‏ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏(‏38‏)‏ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ‏(‏39‏)‏ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ‏(‏40‏)‏ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ‏(‏41‏)‏ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الآنثى‏}‏ أي‏:‏ أن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث، وما بعده من الدار الآخرة، وهم الكفار يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء، وجهالةً جهلاء، وهي أنهم يسمون الملائكة المنزهين عن كل نقص تسمية الأنثى، وذلك أنهم زعموا أنها بنات الله، فجعلوهم إناثاً، وسموهم بنات ‏{‏وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي‏:‏ يسمونهم هذه التسمية، والحال أنهم غير عالمين بما يقولون، فإنهم لم يعرفوهم، ولا شاهدوهم، ولا بلِّغ إليهم ذلك من طريق من الطرق التي يخبر المخبرون عنها، بل قالوا ذلك جهلاً وضلالةً وجرأة‏.‏ وقرئ ‏(‏ما لهم بها‏)‏ أي‏:‏ بالملائكة، أو التسمية ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ أي‏:‏ ما يتبعون في هذه المقالة إلاّ مجرّد الظنّ، والتوهم‏.‏ ثم أخبر سبحانه عن الظنّ وحكمه، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً‏}‏ أي‏:‏ إن جنس الظنّ لا يغني من الحق شيئًا من الإغناء، والحقّ‏:‏ هنا العلم‏.‏ وفيه دليل على أن مجرّد الظن لا يقوم مقام العلم، وأن الظانّ غير عالم‏.‏ وهذا في الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم، وهي المسائل العلمية؛ لا فيما يكتفي فيه بالظنّ، وهي المسائل العملية، وقد قدّمنا تحقيق هذا‏.‏ ولا بدّ من هذا التخصيص، فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد، ونحو ذلك ظنية، فالعمل بها عمل بالظن، وقد وجب علينا العمل به في مثل هذه الأمور، فكانت أدلة وجوبه العمل به فيها مخصصة لهذا العموم، وما ورد في معناه من الذمّ؛ لمن عمل بالظن؛ والنهي عن اتباعه‏.‏ ‏{‏فَأَعْرَضَ عمن تولى عَن ذِكْرِنَا‏}‏ أي‏:‏ أعرض عن ذكرنا، والمراد بالذكر هنا‏:‏ القرآن، أو ذكر الآخرة، أو ذكر الله على العموم، وقيل‏:‏ المراد بالذكر هنا‏:‏ الإيمان، والمعنى‏:‏ اترك مجادلتهم، فقد بلغت إليهم ما أمرت به، وليس عليك إلاّ البلاغ، وهذا منسوخ بآية السيف ‏{‏وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ لم يرد سواها، ولا طلب غيرها بل قصر نظره عليها، فإنه غير متأهل للخير، ولا مستحقّ للاعتناء بشأنه‏.‏ ثم صغر سبحانه شأنهم وحقر أمرهم، فقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم‏}‏ أي‏:‏ إن ذلك التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مبلغهم من العلم ليس لهم غيره، ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ أي‏:‏ ذلك قدر عقولهم، ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة، وقيل‏:‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى جعلهم للملائكة بنات الله، وتسميتهم لهم تسمية الأنثى، والأوّل أولى‏.‏ والمراد بالعلم هنا‏:‏ مطلق الإدراك الذي يندرج تحته الظنّ الفاسد، والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم، واتباعهم مجرّد الظن، وقيل‏:‏ معترضة بين المعلل والعلة وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى‏}‏، فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض، والمعنى‏:‏ أنه سبحانه أعلم بمن حاد عن الحق، وأعرض عنه، ولم يهتد إليه، وأعلم بمن اهتدى، فقبل الحق، وأقبل إليه، وعمل به، فهو مجاز كل عامل بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ‏.‏

وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له بأن لا يتعب نفسه في دعوة من أصرّ على الضلالة، وسبقت له الشقاوة، فإن الله قد علم حال هذا الفريق الضال، كما علم حال الفريق الراشد‏.‏ ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته، وعظيم ملكه، فقال‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ أي‏:‏ هو المالك لذلك، والمتصرّف فيه لا يشاركه فيه أحد، واللام في‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ متعلقة بما دلّ عليه الكلام، كأنه قال‏:‏ هو مالك ذلك يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء ليجزي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ معترضة، والمعنى‏:‏ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى ليجزي، وقيل‏:‏ هي لام العاقبة، أي‏:‏ وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي الله كلاً منهما بعمله‏.‏ وقال مكي‏:‏ إن اللام متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُغْنِى شفاعتهم‏}‏ وهو بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ليجزي‏}‏ بالتحتية‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ بالنون، ومعنى ‏{‏بالحسنى‏}‏ أي‏:‏ بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، أو بسبب أعمالهم الحسنى‏.‏ ثم وصف هؤلاء المحسنين، فقال‏:‏ ‏{‏الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش‏}‏ فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأوّل في قوله‏:‏ ‏{‏الذين أَحْسَنُواْ‏}‏ وقيل‏:‏ بدل منه، وقيل‏:‏ بيان له، وقيل‏:‏ منصوب على المدح بإضمار أعني، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هم الذين يجتنبون كبائر الإثم‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏كبائر‏}‏ على الجمع‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيى بن وثاب‏:‏ ‏{‏كبير‏}‏ على الإفراد، والكبائر‏:‏ كل ذنب توعد الله عليه بالنار، أو ذمّ فاعله ذماً شديداً، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل‏.‏ وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها، والفواحش جمع فاحشة‏:‏ وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا، ونحوه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار، والفواحش‏:‏ كل ذنب فيه الحد، وقيل‏:‏ الكبائر‏:‏ الشرك، والفواحش‏:‏ الزنا، وقد قدّمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا، وأكثر فائدة، والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ اللمم‏}‏ منقطع، وأصل اللمم في اللغة‏:‏ ما قلّ وصغر، ومنه ألمّ بالمكان‏:‏ قلّ لبثه فيه، وألمّ بالطعام‏:‏ قل أكله منه‏.‏ قال المبرد‏:‏ أصل اللمم أن تلمّ بالشيء من غير أن تركبه يقال‏:‏ ألم بكذا‏:‏ إذا قاربه ولم يخالطه‏.‏

قال الأزهري‏:‏ العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنوّ والقرب، ومنه قول جرير‏:‏

بنفسي من تجنبه عزيز *** عليّ ومن زيارته لمام

وقول الآخر‏:‏

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً

قال الزجاج‏:‏ أصل اللمم والإلمام‏:‏ ما يعمله الإنسان المرّة بعد المرّة، ولا يتعمق فيه، ولا يقيم عليه، يقال‏:‏ ألممت به‏:‏ إذا زرته، وانصرفت عنه، ويقال‏:‏ ما فعلته إلاّ لماماً وإلماماً، أي‏:‏ الحين بعد الحين، ومنه إلمام الخيال‏.‏ قال الأعشى‏:‏

ألمّ خيال من قبيلة بعد ما *** وهَى حبلها من حبلنا فتصرّما

قال في الصحاح‏:‏ ألمّ الرجل من ألمم وهو صغائر الذنوب، ويقال‏:‏ هو مقاربة المعصية من غير مواقعة، وأنشد غيره‏:‏

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** وقلّ أن تملينا فما ملك القلب

وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير هذا اللمم المذكور في الآية، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب، وقيل‏:‏ هو ما كان دون الزنا من القبلة، والغمزة، والنظرة، وقيل‏:‏ هو الرجل يلم بذنب، ثم يتوب، وبه قال مجاهد، والحسن، والزهري، وغيرهم، ومنه‏:‏

إن تغفر اللَّهم تغفر جمّا *** وأيّ عبد لك إلاّ ألمّا

اختار هذا القول الزجاج، والنحاس، وقيل‏:‏ هو ذنوب الجاهلية، فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام، وقال نفطويه‏:‏ هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة‏.‏ قال‏:‏ والعرب تقول‏:‏ ما تأتينا إلاّ إلماماً، أي‏:‏ في الحين بعد الحين، قال‏:‏ ولا يكون أن يلمّ ولا يفعل؛ لأن العرب لا تقول‏:‏ ألمّ بنا إلاّ إذا فعل، لا إذا همّ ولم يفعل، والراجح الأول، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة‏}‏ تعليل لما تضمنه الاستثناء، أي‏:‏ إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة، فليس يخلو عن كونه ذنباً يفتقر إلى مغفرة الله، ويحتاج إلى رحمته، وقيل‏:‏ إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه‏.‏ ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده، فقال‏:‏ ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض‏}‏ أي‏:‏ خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد آدم، فإنه خلقه من طين ‏{‏وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة، والأجنة جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن سمي بذلك لاجتنانه، أي‏:‏ استتاره، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فِى بُطُونِ أمهاتكم‏}‏ فلا يسمى من خرج عن البطن جنيناً، والجملة مستأنفة؛ لتقرير ما قبلها ‏{‏فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا تمدحوها ولا تبرئوها عن الآثام ولا تثنوا عليها، فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء، وأقرب إلى الخشوع، وجملة ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى‏}‏‏:‏ مستأنفة مقررة للنهي، أي‏:‏ هو أعلم بمن اتقى عقوبة الله، وأخلص العمل له‏.‏

قال الحسن‏:‏ وقد علم سبحانه من كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة‏.‏ ثم لما بيّن سبحانه جهالة المشركين على العموم خصّ بالذمّ بعضهم فقال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الذى تولى‏}‏ أي‏:‏ تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق ‏{‏وأعطى قَلِيلاً وأكدى‏}‏ أي‏:‏ أعطى عطاءً قليلاً، أو أعطى شيئًا قليلاً، وقطع ذلك وأمسك عنه، وأصل أكدى من الكدية وهي الصلابة، يقال لمن حفر بئراً ثم بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر‏:‏ قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى فلم يتمّ، ولمن طلب شيئًا فلم يبلغ آخره، ومنه قول الحطيئة‏:‏

فأَعطى قليلاً ثم أكْدَى عطاؤه *** ومن يَبْذُلِ المعروف في الناس يحمد

قال الكسائي، وأبو زيد، ويقال‏:‏ كديت أصابعه‏:‏ إذا محلت من الحفر، وكدت يده‏:‏ إذا كلت، فلم تعمل شيئًا، وكدت الأرض‏:‏ إذا قل نباتها، وأكديت الرجل عن الشيء رددته، وأكدى الرجل‏:‏ إذا قلّ خيره‏.‏ قال الفراء‏:‏ معنى الآية‏:‏ أمسك من العطية وقطع‏.‏ وقال المبرد‏:‏ منع منعاً شديداً‏.‏ قال مجاهد، وابن زيد، ومقاتل‏:‏ نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيره بعض المشركين، فترك ورجع إلى شركه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كان الوليد مدح القرآن، ثم أمسك عنه، فأعطى قليلاً من لسانه من الخير ثم قطعه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ نزلت في أبي جهل ‏{‏أعنده عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى‏}‏ الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى‏:‏ أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو يعلم ذلك ‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى * وإبراهيم الذى وفى‏}‏ أي‏:‏ ألم يخبر، ولم يحدّث بما في صحف موسى، يعني‏:‏ أسفاره، وهي التوراة، وبما في صحف إبراهيم، الذي وفى أي‏:‏ تمم وأكمل ما أمر به‏.‏ قال المفسرون‏:‏ أي‏:‏ بلغ قومه ما أمر به وأدّاه إليهم، وقيل‏:‏ بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه، ثم بيّن سبحانه ما في صحفهما، فقال‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى‏}‏ أي‏:‏ لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى، ومعناه‏:‏ لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن مقدّر، وخبرها الجملة بعدها، ومحل الجملة الجرّ على أنها بدل من صحف موسى، وصحف إبراهيم، أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الأنعام ‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَزِرُ‏}‏ وهذا أيضاً مما في صحف موسى، والمعنى‏:‏ ليس له إلاّ أجر سعيه، وجزاء عمله، ولا ينفع أحداً عمل أحد، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه‏:‏

‏{‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء، والملائكة للعباد، ومشروعية دعاء الأحياء للأموات، ونحو ذلك، ولم يصب من قال‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور، فإن الخاصّ لا ينسخ العام بل يخصصه، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه، كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى‏}‏ أي‏:‏ يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة ‏{‏ثُمَّ يُجْزَاهُ‏}‏ أي‏:‏ يجزى الإنسان سعيه، يقال‏:‏ جزاه الله بعمله، وجزاء على عمله، فالضمير المرفوع عائد إلى الإنسان، والمنصوب إلى سعيه‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضمير المنصوب راجع إلى الجزاء المتأخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏الجزاء الأوفى‏}‏ فيكون الضمير راجعاً إلى متأخر عنه هو مفسر له، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب راجعاً إلى الجزاء الذي هو مصدر يجزاه، ويجعل الجزاء الأوفى تفسيراً للجزاء المدلول عليه بالفعل، كما في قوله‏:‏ ‏{‏اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ قال الأخفش‏:‏ يقال‏:‏ جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواءً لا فرق بينهما‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى‏}‏ أي‏:‏ المرجع والمصير إليه سبحانه لا إلى غيره، فيجازيهم بأعمالهم‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش‏}‏ قال‏:‏ الكبائر‏:‏ ما سمى الله فيه النار، والفواحش‏:‏ ما كان فيه حدّ الدنيا‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عباس قال‏:‏ ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك، أو يكذبه» وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ اللمم‏}‏ قال‏:‏ زنا العينين‏:‏ النظر، وزنا الشفتين‏:‏ التقبيل، وزنا اليدين‏:‏ البطش، وزنا الرجلين‏:‏ المشي، ويصدّق ذلك الفرج، أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانياً، وإلاّ فهو اللمم‏.‏ وأخرج مسدد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ اللمم‏}‏ قال‏:‏ هي‏:‏ النظرة، والغمزة، والقبلة، والمباشرة، فإذا مسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل، وهو الزنا‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والترمذي وصححه، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ اللمم‏}‏ هو‏:‏ الرجل يلم بالفاحشة، ثم يتوب منها‏.‏ قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

إن تغفر اللَّهم تغفر جما *** وأيّ عبد لك لا ألما

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏اللمم‏}‏ يقول‏:‏ إلاّ ما قد سلف‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ اللمم‏}‏ قال‏:‏ اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود، فذلك الإلمام‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ اللمم كل شيء بين الحدّين حدّ الدنيا وحدّ الآخرة يكفره الصلاة، وهو دون كلّ موجب، فأما حدّ الدنيا، فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا؛ وأما حدّ الآخرة، فكلّ شيء ختمه الله بالنار، وأخر عقوبته إلى الآخرة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال‏:‏ كانت اليهود إذا هلك لهم صبيّ صغير قالوا‏:‏ هو صدّيق، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «كذبت يهود ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلاّ أنه شقيّ، وسعيد»، فأنزل الله عند ذلك ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض‏}‏ الآية كلها‏.‏ وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البرّ منكم، سموها زينب» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وأعطى قَلِيلاً وأكدى‏}‏ قال‏:‏ قطع، نزلت في العاص بن وائل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ أطاع قليلاً ثم انقطع‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والشيرازي في الألقاب، والديلمي قال السيوطي‏:‏ بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبيّ قال‏:‏ «أتدرون ما قوله‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذى وفى‏}‏‏؟‏» قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ «وفّى عمل يومه بأربع ركعات كان يصليهنّ، وزعم أنها صلاة الضحى»، وفي إسناده جعفر بن الزبير، وهو ضعيف‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ سهام الإسلام ثلاثون سهماً لم يتممها أحد قبل إبراهيم عليه السلام قال الله‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذى وفى‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ يقول إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى الرؤيا، والذي في صحف موسى، ‏{‏أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى‏؟‏ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏ إلى آخر الآية ‏[‏الروم‏:‏ 17‏]‏»، وفي إسناده ابن لهيعة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏والنجم‏}‏ فبلغ‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذى وفى‏}‏ قال‏:‏ وفّى ‏{‏أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مّنَ النذر الأولى‏}‏‏.‏

وأخرج أبو داود، والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه قال‏:‏ ‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى‏}‏ فأنزل الله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏، فأدخل الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ‏:‏ ‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى‏}‏ استرجع واستكان‏.‏ وأخرج الدارقطني في الأفراد، والبغوي في تفسيره عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى‏}‏ قال‏:‏ «لا فكرة في الرب»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 62‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ‏(‏43‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ‏(‏44‏)‏ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏45‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ‏(‏46‏)‏ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ‏(‏47‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ‏(‏48‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ‏(‏50‏)‏ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ‏(‏51‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ‏(‏52‏)‏ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ‏(‏53‏)‏ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ‏(‏55‏)‏ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ‏(‏56‏)‏ أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ ‏(‏57‏)‏ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ‏(‏58‏)‏ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ‏(‏59‏)‏ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ‏(‏60‏)‏ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ‏(‏61‏)‏ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى‏}‏ أي‏:‏ هو الخالق لذلك والقاضي بسببه‏.‏ قال الحسن، والكلبي‏:‏ أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر، وقيل‏:‏ أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه، وأبكى من شاء بأن غمه‏.‏ وقال سهل بن عبد الله‏:‏ أضحك المطيعين بالرحمة، وأبكى العاصين بالسخط ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا‏}‏ أي‏:‏ قضى أسباب الموت والحياة، ولا يقدر على ذلك غيره، وقيل‏:‏ خلق نفس الموت والحياة، كما في قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الموت والحياة‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ وقيل‏:‏ أمات الآباء، وأحيا الأبناء، وقيل‏:‏ أمات في الدنيا وأحيا للبعث، وقيل‏:‏ المراد بهما‏:‏ النوم واليقظة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ أمات بعدله وأحيا بفضله، وقيل‏:‏ أمات الكافر وأحيا المؤمن، كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى‏}‏ المراد‏:‏ بالزوجين‏:‏ الذكر والأنثى من كل حيوان، ولا يدخل في ذلك آدم وحوّاء، فإنهما لم يخلقا من النطفة، والنطفة‏:‏ الماء القليل، ومعنى ‏{‏إِذَا تمنى‏}‏‏:‏ إذ تصبّ في الرحم وتدفق فيه، كذا قال الكلبي، والضحاك، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم، يقال‏:‏ مني الرجل وأمنى، أي‏:‏ صب المنيّ‏.‏ وقال أبو عبيدة ‏{‏إِذَا تمنى‏}‏ إذا تقدّر، يقال‏:‏ منيت الشيء‏:‏ إذا قدّرته ومني له، أي‏:‏ قدر له، ومنه قول الشاعر‏:‏

حَتَّى تلاقي ما يمْني لَكَ الماني *** والمعنى‏:‏ أنه يقدّر منها الولد‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى‏}‏ أي‏:‏ إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث وفاء بوعده‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏النشأة‏}‏ بالقصر بوزن الضربة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالمدّ بوزن الكفالة، وهما على القراءتين مصدران‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى‏}‏ أي‏:‏ أغنى من شاء وأفقر من شاء، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ وقوله‏:‏ «يَقْبِضُ ويبسط» ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ قاله ابن زيد، واختاره ابن جرير‏.‏ وقال مجاهد، وقتادة، والحسن‏:‏ أغنى‏:‏ موّل، وأقنى‏:‏ أخدم، وقيل‏:‏ معنى أقنى‏:‏ أعطى القنية، وهي ما يتأثل من الأموال‏.‏ وقيل‏:‏ معنى أقنى‏:‏ أرضى بما أعطى، أي‏:‏ أغناه ثم رضاه بما أعطاه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ قنّى الرجل قنًى، مثل غنّى غنًى، أي‏:‏ أعطاه ما يقتني، وأقناه‏:‏ أرضاه، والقنى‏:‏ الرضى‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ تقول العرب‏:‏ من أعطى مائة من البقر فقد أعطى القنى، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطى الغنى، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطى المنى‏.‏ قال الأخفش، وابن كيسان‏:‏ أقنى‏:‏ أفقر، وهو يؤيد القول الأوّل‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى‏}‏ هي كوكب خلف الجوزاء كانت خزاعة تعبدها، والمراد بها‏:‏ الشعرى التي يقال لها‏:‏ العبور، وهي أشدّ ضياء من الشعرى التي يقال لها‏:‏ الغميصاء، وإنما ذكر سبحانه أنه ربّ الشعرى مع كونه رباً لكلّ الأشياء للردّ على من كان يعبدها، وأوّل من عبدها أبو كبشة، وكان من أشراف العرب، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ابن أبي كبشة تشبيهاً له به لمخالفته دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، ومن ذلك قول أبي سفيان يوم الفتح‏:‏ لقد أمر أمْر ابن أبي كبشة‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى‏}‏ وصف عاداً بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ قيل لها‏:‏ عاداً الأولى، لأنهم أوّل أمة أهلكت بعد نوح‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ هما عادان، فالأولى أهلكت بالصرصر، والأخرى أهلكت بالصيحة‏.‏ وقيل‏:‏ عاد الأولى قوم هود، وعاد الأخرى‏:‏ إرم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عاداً الأولى‏}‏ بالتنوين والهمز، وقرأ نافع، وابن كثير، وابن محيصن بنقل حركة الهمزة على اللام، وإدغام التنوين فيها‏.‏ ‏{‏وَثَمُودَ فَمَا أبقى‏}‏ أي‏:‏ أهلك ثموداً كما أهلك عاداً، فما أبقى أحداً من الفريقين، وثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة، وقد تقدّم الكلام على عاد، وثمود في غير موضع‏.‏ ‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ وأهلك قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى‏}‏ أي‏:‏ أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب، وإنما كانوا كذلك، لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏والمؤتفكة أهوى‏}‏ الائتفاك‏:‏ الانقلاب، والمؤتفكة‏:‏ مدائن قوم لوط، وسميت المؤتفكة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها، تقول‏:‏ أفكته‏:‏ إذا قلبته، ومعنى أهوى‏:‏ أسقط، أي‏:‏ أهواها جبريل بعد أن رفعها‏.‏ قال المبرد‏:‏ جعلها تهوي‏.‏ ‏{‏فغشاها مَا غشى‏}‏ أي‏:‏ ألبسها ما ألبسها من الحجارة التي وقعت عليها، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 74‏]‏ وفي هذه العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به، وتعظيم له، وقيل‏:‏ إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة، أي‏:‏ فغشاها من العذاب ما غشّى على اختلاف أنواعه‏.‏ ‏{‏فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى‏}‏ هذا خطاب للإنسان المكذب، أي‏:‏ فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكك وتمتري، وقيل‏:‏ الخطاب لرسول الله تعريضاً لغيره، وقيل‏:‏ لكلّ من يصلح له، وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدّده بحسب تعدد متعلقه، وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء، أي‏:‏ نعماً مع كون بعضها نقماً لا نعماً؛ لأنها مشتملة على العبر والمواعظ، ولكون فيها انتقام من العصاة، وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏تتمارى‏}‏ من غير إدغام، وقرأ يعقوب، وابن محيصن بإدغام إحدى التاءين في الأخرى‏.‏ ‏{‏هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الاولى‏}‏ أي‏:‏ هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدّمين قبله، فإنه أنذركم، كما أنذروا قومهم، كذا قال ابن جريج، ومحمد بن كعب، وغيرهما‏.‏

وقال قتادة‏:‏ يريد القرآن، وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى، وقيل‏:‏ هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، كذا قال أبو مالك‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ إن الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إلى ما في صحف موسى، وإبراهيم، والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏أَزِفَتِ الازفة‏}‏ أي‏:‏ قربت الساعة ودنت، سماها آزفة لقرب قيامها، وقيل‏:‏ لدنوّها من الناس، كما في قوله‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏ أخبرهم بذلك ليستعدّوا لها‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ أزفت الآزفة‏:‏ يعني‏:‏ القيامة، وأزف الرجل‏:‏ عجل، ومنه قول الشاعر‏:‏

أزف الترحل غير أن ركابنا *** لما تزل برحالنا وكأن قد

‏{‏لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلاّ الله سبحانه، وقيل‏:‏ كاشفة بمعنى انكشاف، والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية، وقيل‏:‏ كاشفة بمعنى كاشف، والهاء للمبالغة كرواية، والأوّل أولى‏.‏ وكاشفة صفة لموصوف محذوف، كما ذكرنا، والمعنى‏:‏ أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها، وأهوالها أحد غير الله، كذا قال عطاء، والضحاك، وقتادة، وغيرهم‏.‏ ثم وبّخهم سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ‏}‏ المراد بالحديث‏:‏ القرآن، أي‏:‏ كيف تعجبون منه تكذيباً ‏{‏وَتَضْحَكُونَ‏}‏ منه استهزاءً مع كونه غير محلّ للتكذيب، ولا موضع للاستهزاء ‏{‏وَلاَ تَبْكُونَ‏}‏ خوفاً وانزجاراً لما فيه من الوعيد الشديد، وجملة‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ سامدون‏}‏ في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة لتقرير ما فيها، والسمود‏:‏ الغفلة والسهو عن الشيء، وقال في الصحاح‏:‏ سمد سموداً‏.‏ رفع رأسه تكبراً، فهو سامد، قال الشاعر‏:‏

سوامد الليل خفاف الأزواد *** وقال ابن الأعرابي‏:‏ السمود‏:‏ اللهو، والسامد‏:‏ اللاهي، يقال للقينة‏:‏ أسمدينا، أي‏:‏ ألهينا بالغناء، وقال المبرد‏:‏ سامدون، خامدون‏.‏ قال الشاعر‏:‏

رمى الحدثان نسوة آل عمرو *** بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السود بيضا *** وردّ وجوههنّ البيض سودا

‏{‏فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا‏}‏ لما وبّخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن، والضحك منه، والسخرية به، وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره، أمر عباده المؤمنين بالسجود لله، والعبادة له، والفاء جواب شرط محذوف، أي‏:‏ إذا كان الأمر من الكفار كذلك، فاسجدوا لله واعبدوا، فإنه المستحق لذلك منكم، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية، وسجد معه الكفار، فيكون المراد بها سجود التلاوة، وقيل‏:‏ سجود الفرض‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى‏}‏ قال‏:‏ أعطى وأرضى‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى‏}‏ قال‏:‏ هو الكوكب الذي يدعى الشعرى‏.‏ وأخرج الفاكهي عنه أيضاً قال‏:‏ نزلت هذه الآية في خزاعة، وكانوا يعبدون الشعرى، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء‏.‏

وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى‏}‏ قال‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال‏:‏ الآزفة من أسماء القيامة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ‏}‏ فما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلاّ أن يتبسم‏.‏ ولفظ عبد بن حميد‏:‏ فما رؤي النبيّ صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، ولا متبسماً حتى ذهب من الدنيا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سامدون‏}‏ قال‏:‏ لاهون معرضون عنه‏.‏ وأخرج الفريابي، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ سامدون‏}‏ قال‏:‏ الغناء باليمانية، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا‏.‏ وأخرج الفريابي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏سامدون‏}‏ قال‏:‏ كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم شامخين، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال‏:‏ خرج عليّ بن أبي طالب علينا، وقد أقيمت الصلاة، ونحن قيام ننتظره ليتقدّم، فقال‏:‏ ما لكم سامدون، لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنتظرون‏؟‏